خطاب الأسد- اتهامات للموالين وإنكار للأزمة الاقتصادية في سوريا؟

المؤلف: ابتسام تريسي11.22.2025
خطاب الأسد- اتهامات للموالين وإنكار للأزمة الاقتصادية في سوريا؟

اختتم بشار الأسد العام الماضي بأغنية ذات طابع فكاهي، انتشرت كالنار في الهشيم على منصات التواصل الاجتماعي، مستوحاة من مقتطفات وردت في خطاباته خلال عام 2023. ورغم ما حملته الأغنية من ظرف، إلا أنها لم تعبّر بدقة عن عمق تفكير الرئيس، ولا عن خططه المستقبلية الرامية إلى انتشال الاقتصاد الوطني من براثن الانهيار المتواصل.

تاقت نفس الأسد إلى استئناف عقد المؤتمرات ومخاطبة "شعبه" بتلك اللغة البليغة، التي أجاد كتّاب خطاباته تطويعها كالحرباء، فصارت فصيحة متعالية، تبرز بجلاء المستوى المعرفي الرفيع للرئيس، وتزخر بالتعقيدات والألغاز المحيرة!

اعتاد الناس على الاستماع إلى تلك الخطابات والافتتان بها منذ مستهل فترة حكمه، حتى أن البعض أطلق عليه لقب "المثقف"، فهو – وإن كان يرتجل خطابه – لا يتخلى مطلقًا عن تلك السمات المميزة التي تطبع أسلوبه.

ويبدو أن خطابه في مؤتمر القمة العربية الإسلامية الذي انعقد في جدة، قد أيقظ لدى الأسد الرغبة الجامحة – بعد طول انقطاع – في أن يستمع إليه الآخرون ويظهروا إعجابهم بكلماته، فعاد إليهم في اجتماع خاص باللجنة المركزية لحزب البعث.

هجوم كاسح

شنّ بشّار الأسد سلسلة من الاتهامات الخطيرة على الموالين لحكمه! وذلك بعد أن تبرأ من الدمار الشامل الذي ألحقه بسوريا، ومن معارضيه السياسيين، والمناطق التي ثارت ضده، وغسل يديه جيدًا من دماء السوريين الأبرياء تحت غطاء دولي، ثم تفرغ لشعبه "المختار"!

هؤلاء الموالون الذين رسّخوا أركان حكمه، وقبضوا بأيديهم الملطخة بالدماء، دماء أبنائهم وأقاربهم، وتغاضوا عن جرائمه البشعة، بل كان بعضهم على يقين تام ببراءته من تلك الدماء، براءة الذئب من دم يوسف – ها هم الآن يتلقون الحمم الملتهبة التي صبّها عليهم بشّار الأسد في خطابه، واصفًا إياهم بأنهم "طابور خامس"، ولكن بتعريف جديد تمامًا!

"الطابور الخامس بمفاهيمنا المعاصرة ليس بالضرورة عملاء وخونة بالمعنى التقليدي، كلا، هناك مجموعات يائسة ومحبطة، وهي تسعى لنشر هذا الإحباط بين الآخرين، لأنها تشعر بالارتياح عندما ترى غيرها محبطًا مثلها. هناك شخص تافه يسعى لرؤية الآخرين تافهين مثله، ليشعر بأنه في مكانه الصحيح، في البيئة المألوفة. وهناك شخص جبان وانتهازي يعتقد أن جميع الناس تفكر بنفس طريقته، فيسوّق أسلوبه الخاص على أنه القاعدة العامة".

كما وَصَفَ أولئك الذين يسمون أنفسهم بالناشطين – والذين يملؤون فضاءات التواصل الاجتماعي بانتقادات لاذعة للمسؤولين، وتذمر مستمر من الأوضاع المتردية في البلاد، وارتفاع الأسعار الجنوني، وانقطاع الكهرباء المتكرر، وشح المياه، وتدني مستوى الدخل الذي بالكاد يكفي لتأمين ثمن الخبز، وانعدام الوقود اللازم للتدفئة – وصفهم بالرويبضة، مستشهدًا بالحديث النبوي الشريف:

"ربما سمعتم حديث الرسول عن الرويبضة – لا أذكره نصًّا – لكن معناه: "ستأتي سنوات يُصدّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب الصادق، ويخون المؤتمن.. وصولًا إلى "وينطق الرويبضة"، فقيل ما هي الرويبضة؟ قال: "التافه يتحدث في أمور العامة".

تصوروا أن هذا المفهوم موجود منذ أربعة عشر قرنًا، فالرويبضات هم جزء لا يتجزأ من المجتمع الإنساني، وما أكثر الرويبضات اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن بدلًا من أن يسمى رويبضة يطلق عليه لقب خبير.. اليوم معظمهم خبراء في كل شيء!

الاقتصاد وأحواله

ثم ينتقل الأسد للحديث عن الوضع الاقتصادي في البلاد، فيقول – وليطُل عمر السامعين – إن البعض – ويا له من "بعض" كبير – يزعمون أن الاقتصاد كان قبل الحرب في صعود صاروخي، لكنه لم يكن كذلك على الإطلاق! هذا ما يراه الأسد ويصرّ عليه.

فالاقتصاد في البلاد قبل الحرب لم يكن في وضع جيد، وربما ساهم هذا الأمر في اندلاع الحرب التي استغلها الغرب ضد الدولة. أما المال السياسي فهو – برأيه – يخدم هدفًا سياسيًا أسمى وأكبر، لذلك لا داعي لتضخيم حجمه وأهميته. فهو عبارة عن محسوبيات قد تؤدي – ربما – إلى فساد، أو هو فساد محض لا علاقة له بالمحسوبيات؛ أي أموال تُدفع مقابل تحقيق مصالح شخصية ضيقة.

بهارات الخطاب

لا بدّ للأسد من استعراض بعض العبارات الرنانة التي تثبت سعة اطلاعه الثقافي وعمق رؤيته الشاملة، فهي بمثابة "بهارات" لا غنى عنها لإضفاء نكهة مميزة على "الطبخة". وقد استخدم في هذا الخطاب تعبير "الديماغوجية".

وهذا المصطلح يعكس اللاشعور اللغوي الأسدي الذي يتقارب، ويدمج، ويستعير، ويستنبط، فهو الأقرب إلى صناعة "الدماغ" التي برع فيها الأسد من خلال كميات المخدرات الهائلة التي أغرق بها الأسواق، وهربها إلى الدول الأخرى، وأشعلت فتيل حرب حقيقية بينه وبين الأردن.

المتأمل الفاحص لخطاب الأسد هذه المرة يرى أنه قد وصف نفسه بدقة متناهية، وتحدث عنها بكل شفافية ووضوح!

تقصير الدولة وقصور الوعي

تطرق الأسد إلى طبيعة العلاقة المعقدة بين المواطن والدولة، وإلى قصور الوعي لدى المواطن الذي يخضع أحيانًا لأفكار هدامة ومضللة، سواء عن قصد أو عن غباء مستحكم، فينجر وراء تلك الأفكار وينتقد الدولة ويتهمها بالتقصير والإهمال.

وتساءل الأسد مستنكرًا: "هناك من يسأل ماذا قدمت الدولة لي.. نسأله بدورنا: ماذا قدمت أنت للدولة؟". هذه المقولة – "المسروقة طبعًا" من أغنية علية التونسية الشهيرة: "ما نقولش إيه إدتنا مصر متقول ح ندي إيه لمصر" – تختصر نظرة الأسد العميقة للشعب الذي يجب أن يكون مصدر الدخل الأساسي للدولة، فحين ينهار الاقتصاد وتفلس الدولة، فإنها تلتفت مباشرة إلى الاحتياطي النقدي المتمثل في مواطنيها!

وهذا هو بيت القصيد في خطاب الأسد، الدعوة الصريحة والمباشرة للمواطنين الموالين لحكمه بأن يتخلوا عن أنانيتهم ومصالحهم الشخصية الضيقة، ويضحوا في سبيل الدولة التي هم جزء لا يتجزأ منها، بل هي كل شيء بالنسبة إليهم. وتتضمن هذه الدعوة التضحية بالممتلكات، كل مواطن على قدر استطاعته وما يملك، فالجميع متساوون هنا في العطاء، موضوعون في لجام واحد، لا فرق بين من يملك المليارات ومن لا يملك سوى ما يستر به عريه. فـ "الغاوي ينقط بطاقيته"، ويا ليته ممن يكتبون خطابات بشّار الأسد، كاتبًا يُضاهي الناقد المصري القدير "جليل البنداري" الذي اقترح على من انتقدوا أغنية "صباح" في تلك الحقبة وهاجموها بضراوة على صفحات الجرائد، أن يبدلوا مطلع الأغنية ليصبح: "الغاوي ينقط بالمدفع يسلم لي قراقوش المصنع". وبما أن العهد الآن هو عهد الكبتاجون، فبإمكانه نظم أغنية جديدة تناسب واقع الحال المرير الذي نعيشه. لينقط الغاوون بما تجود به قريحتهم من هلوسات الفقر المدقع والذل المهين والدمار الشامل الذي يعيشون فيه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة